فصل: باب: غسل الميت:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: تارك الصلاة:

1631- اختلف مذاهب العلماء في حكم الله تعالى على من يترك الصلاة من غير عذر.
فذهب أحمد: إلى أنه يكفر، ولو مات قبل التوبة، فهو مرتد، وماله فيء.
وتوبتُه عنده أن يقضي تلك الصلاة.
وقال أبو حنيفة: لا يكفر ولا يقتل أيضاً، ثم قال في رواية: لا يتعرض له، بل يخلّى سبيله؛ فإن الصلاة أمانةُ الله تعالى، فأمره في تركها وإقامتها موكول إلى الله تعالى، وقال في رواية: يحبس ويؤدب، فإن استمر على ترك الصلاة، أدّبناه في وقت كل صلاة، ولا ينتهي الأمر إلى ما يكون سبباً للهلاك.
وهذا مذهب المزني.
1632- وأما الشافعي؛ فإنه رأى قتلَ تارك الصلاة، ومأخذ مذهبه الخبرُ، مع أنه لم يرد في هذا الخبر قتلٌ على التخصيص. والهجوم على قتل مسلمٍ عظيمٌ مشكل، وقد بذلت كنهَ الجهد في كتاب الأسلوب.
1633- ثم مضمون الباب فصول: أحدها: في تصوير الترك الذي يتعلق به استحقاق القتل، والقول في هذا يتعلق بأمرين:
أحدهما: في عدد الصلاة.
والثاني: في معنى الوقت المعتبر في إخراج الصلاة عنه.
1634- فأما العدد، فمذهب الشافعي أنه لو ترك صلاةَ واحدة متعمداً من غير عُذرٍ، استوجب القتل إذا امتنع من القضاء، فهذا مذهبه، وتأويل قوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك صلاة متعمداً فقد كفر» أي استوجب ما يستوجبه الكافر.
والصلاة منكَّر في الحديث، ومقتضاها الاتحاد.
وحكى العراقيون وراء النص وجهين آخرين:
أحدهما: عن الإصطخري: أنه لا يستوجب القتل حتى يترك أربعَ صلوات، ويمتنع عن القضاء، فيقتل بعد الرابعة.
والوجه الثاني- حكَوْه عن أبي إسحاق المروزي أنه لا يستوجب القتلَ بترك واحدة، ويُحمل ذلك-وإن كان عمداً- على ذُهولٍ وكسل، فإذا ترك الثانية، فقد عاد، فيلتزم القتل إذا لم يَقضِ.
وذكر شيخي مذهب الإصطخري، وحكى عنه أنه يستوجب القتل بترك ثلاث صلوات، فإذا امتنع من القضاء بعد الثالثة، قتل.
وفي بعض التصانيف نقل مذهب الإصطخري على أنه لا يخصص بعدد، ولكن إذا ترك من الصلوات ما انتهى إلى ظهور اعتياده تَرْكَ الصلاة، قتل، وإذا لم ينته إلى ذلك لم يقتل. وهذا مذهب غير معتد به.
والمعتمد في النقل ما ذكره الأئمة.
والمذهب ما نص عليه الشافعي.
فهذا كلامنا في العدد.
1635- فأما الوقت، فذكر الصيدلاني، وغيره: أن القتل إنما يثبت إذا أخرج الصلاة عن وقت العذر والضرورة أيضاً، فإذْ ذاك إذا امتنع يُقتل، فإذا ترك صلاة الظهر حتى دخل وقت العصر، لم نقتله حتى تغرب الشمس، وفي المغرب حتى يطلع الفجر، ويتحقق الترك في الصبح بطلوع الشمس. ولم أر في الطرق ما يخالف هذا.
وإذا كنا نجعل الحائض بإدراك شيءٍ من وقت العصر مدركةَ لصلاة الظهر، فلا يبعد أن يقف أمر الترك الموجب للقتل، على انقضاء جميع هذه الأوقات.
ثم مما يتصل ببقية ذلك شيئان:
أحدهما: أن قول الشافعي اخْتَلَفَ في وجوب إمهال المرتد ثلاثة أيام في الاستتابة، كما سيأتي مشروحاً في موضعه إن شاء الله تعالى، وهذان القولان يجريان في تارك الصلاة، بل هما أظهر هاهنا، لغموض مأخذ القتل في أصل هذا الباب.
والثاني: أنه مهما قضى ما ترك خلّيناه، وقضاؤه كعوْد المرتد إلى الإسلام.
ومن نام عن صلاة أو نسيها حتى انقضى الوقت، ولزمه القضاء، فليس الوجوب على الفور، بل عمره وقتُه، كقولنا في الحج في حق المستطيع.
ومن ترك صلاة متعمداً، فوجوب القضاء على الفور، ولهذا يقتل الممتنع من القضاء، ولو لم يكن على الفور، لما تحقق الحمل عليه بالسيف.
1636- ثم الذي ذهب إليه الأئمة، أنا إذا أردنا قتله، قتلناه بالسيف كما يُقتل المرتد.
وعن صاحب التلخيص أنه ينخس بحديدة ويقال له: قم، صلّ، فإن امتثل وإلا استكملنا بهذا النوع قتله. وليس لما ذكره أصل صحيح عند الأصحاب، فهو متروك عليه.
ثم إذا قتل، دفن في مقابر المسلمين وصُلِّي عليه، وهكذا سبيل أصحاب الكبائر، وحكى بعض الأصحاب عن صاحب التلخيص أنه إذا دفن في مقابر المسلمين، يسوى التراب ولا يرفع نعش قبره حتى يُنسى ولا يذكر. ولست أرى لهذا أصلاً.

.كتاب الجنائز:

1637- ذكر الشافعي آداباً في حق المحتضَر إذا قرب موتُه، فنقول: ينبغي أن يكون في نفسه حسن الظن بالله تعالى عند قرب موته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحدكم إلا وهو حَسن الظن بالله تعالى».
ثم ينبغي أن يلقَن الشهادة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله»، وروى معاذ عن النبي عليه السلام أنه قال: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة».
ثم لا ينبغي للملقّن أن يلحّ على من قرب أجله، بل يذكِّره الشهادة برفق، بحيث لا يُضجره.
ثم مما يؤثر إذا فاضت نفسه، أن يُغمض عينيه رجل رفيق، ويشد لحييه بعصابة؛ حتى لا تبقى صورتُه مشوّهة في المنظر، ويكون هذا عند تحقق الموت، من غير تأخير؛ فإنه قد لا تُطاوعُ الأعضاءُ إذا بعد الزمان، وكذلك نُؤثر تليين مفاصله عند الموت؛ حتى لا تبقى منتصبة، فيعسر التصرف فيها عند الغُسل، ومحاولة الإدراج في الكفن.
وذكر جملاً من علامات الموت؛ والغرض أنا لا نُحدث شيئاً مما ذكرناه إلا ونحن على تحقق من الموت.
وينزع عنه الثياب التي تدفئه إذا مات؛ حتى لا يتسرعّ التغييرُ إليه، ويسجّى بثوبٍ خفيف، ولو وضَع سيفاً أو غيرَه على بطنه حتى لا يربو، فحسنٌ.
وقد ورد في بعض الآثار تلاوة سورة يس عند قرب الأمر.
والذي كان يقطع به شيخي أن المحتضَر يُلقَى على قفاه، وأخمصاه إلى القبلة، وذكر العراقيون أنه يُلقَى على جنبه الأيمن كما يفعل في لحده، ولست أثق بهذا؛ فإن عمل الناس على خلاف هذا. وإن كان ما ذكرناه منقاساً في رعاية استقبال القبلة.

.باب: غسل الميت:

1638- نذكر في صدر هذا الباب أموراً تتعلق بآدابٍ في مقدمةِ الغسل، وكيفية الغُسل، ثم نذكر المسائلَ الفقهية إن شاء الله عز وجل، فنقول: الأَوْلى ألا يُنزع عن الميت قميص، بل يغسَّلُ فيه، وإن مست الحاجة إلى مس بدنه باليد في الغسل، فَتق الغاسلُ القميصَ وأدخل يده في موضع الفتق، فإن نزع القميص، جاز، ولكن يجب أن يستر عورة الرجل بثوب يُلقى عليها، والعورة ما بين السرة والركبة، وهذا يُبنى على العلم بأنه يحرم النظر إلى عورته، ويكره النظر إلى سائر بدنه، إلا عند الحاجة.
ثم ذكر المزني أنه يعيد الغاسل تليين مفاصله عند الغسل، وتردد أصحابنا، والوجه فيه أن يعلم أن التليين في هذا الوقت، لم يرد فيه أثر، ولم يوجد فيه نصّ للشافعي، ولكن الوجه أن يقال: إن لم تمس حاجة إلى التليين وإعادته، فلا وجه له، وإن مست الحاجة إلى إعادة التليين، فلا معنى للتردد فيه.
ثم نقول: ينبغي أن يُغسَّل في موضعٍ خالٍ، لا يطلعُ عليه إلا غاسله، ومن لابد منه في الإعانة، ولا ينبغي لمن يتعاطى ذلك أن يذكر شيئاً من العلامات التي تكره، فقد يسودُّ وجه الميت بثوران الدم فيه، وقد يميل وجهُه لالتواء عصبٍ، فلو ذُكر، فقد يظن به من لا يدري سوءاً.
ثم يفضى بالميت إلى مغتَسله، وهو لوح مهيأ لهذا الشأن، فلو لم يكن، فسرير، وينبغي أن يكون المغتَسل منحدراً في وضعه، حتى لا يقف الماء وينحدر، ثم يعتدّ الغاسل موضعاً فيه ماء كثير، وينحيه من السرير، حتى لا يترشش، ولا يتقاطر إليه، ويكون معه ما يغترف به الماء من ذلك الإناء المنحَّى.
1639- والأصح المنصوص عليه للشافعي أن بدن الآدمي لا ينجس بالموت؛ إذ لو كان ينجس، لما كان في تنظيفه بالغسل معنى.
وذهب أبو القاسم الأنماطي إلى أنه ينجس، واستنبط قوله من أمر الشافعي بتنحية الإناء الكبير الذي فيه الماء. وهذا غير صحيح؛ فإن الشافعي نص على ما يفسد هذا؛ فإنه قال: يُنحَّى حتى تكون النفس أطيب في ألا يتقاطر الماء، ثم الماء المستعمل إذا كثر تقاطره، فقد يثبت إلى ما يتقاطر إليه حكم الاستعمال، فيخرج عن كونه طهوراً، وإن بقي طاهراً.
1640- ثم إذا أفضى به إلى مغتسله ألقاه على قفاه أولاً، ثم يتقدم، فيجلسه برفق، ويكون ميله إلى وراء، فلا يجلسه معتدلاً؛ فإن الميلَ إلى الاستلقاء أوفق، لما يحاوله مما نذكره الآن. وينبغي إذا أجلسه على الهيئة التي ذكرناها، أن يعتني بحفظ رأسه، حتى لا يميل إلى وراء ميلاً بيناً، ثم إذا أثبته كذلك، اعتمد بيديه على بطنه ماسحاً متحاملاً بقوة-وميل الميت إلى وراء- فإن كان فيه فضلةٌ يخشى مبادرتها خرجت، ثم يأمر من معه في هذا الوقت حتى يصب الماء بقوة، ويُكثر؛ حتى إن كان من شيء خَفي في كثرة الماء. والمجمرةُ-مع الاعتناء بفائح الطيب- تكون عنده في هذا الوقت مُتَّقِدَة. ثم إذا تقدر الفراغُ من هذا المقصود الذي ذكرناه، فيتعهد-وقد ردّه إلى هيئة الاستلقاء- غَسْلَ سوأتيه، ولا يمس بيده واحدة منهما، ثم يلفّ على يده خرقة، ويُمعن في غسل إحداهما، ثم ينحي تلك الخرقة، ويلف أخرى، ويغسل الأخرى، فيكون ما جرى بمثابة الاستنجاء في حق الحي، ثم كل خرقة ردّها، ابتدرها بعضُ من يُعينه وغسلها. ثم إن كان ببدنه قذر اعتنى به، ولف خرقة على يديه وغسله، ثم يتعمد خرقة نظيفة، فيبلها، ويتعهد ثغره، وأسنانه بها، ويكون ذلك كالسواك، ولا يفتح فاه في ذلك، ويتعهد منخريه كذلك، ويزيل أذىً إن كان، ثم يوضئه وضوءاً تاماً، ثلاثاً ثلاثاً. وذكر الشيخ أبو بكر أنه يأتي بالمضمضة والاستنشاق. وظاهر هذا أنه يوصل الماء إلى داخل فيه وأنفه، ولا يكتفي بإيصال الماء إلى مقادم الثغر والمنخرين، وكان شيخي يقول: يكتفي بإيصال الماء إلى ثغره ومنخره، وهذا معنى المضمضة فيه، وكذلك القول في المنخرين. والذي أرى القطعَ به أن أسنانَه إن كانت متراصة، فلا ينبغي أن يتكلف الغاسل فكّها، وفتحها، لمكان المضمضة، وإن كان فمه مفتوحاً ففي إيصال الماء إلى داخل فمه وأنفه تردد من الأئمة. والسبب فيه أنه قد يبتدر الماء إلى جوفه، فيكون ذلك سبباً في تسارع الفساد والبلى إليه، ونحن مأمورون برعاية صونه جهدنا، وإن كان مصيره إلى البلى.
ثم إذا فرغ من ذلك وضَّأه، وتعهد شعره وسرّح لحيته، وشعرَ رأسه إن كان ذا لِمّة، وكانت قد تلبّدت، حتى لا يمتنع بسببها وصول الماء إلى أصول الشعر، ويستعمل مشطاً واسع الأسنان، وَيرْفُقُ جهده؛ حتى لا ينتف شعره، ثم يضجعه على شقه الأيسر ويبتدىء غسله، فيصب الماء على رأسه، وعنقه وشقه الأيمن كلِّه، إلى فخذه، وساقه، ورجله، ثم يلقيه على قفاه برفق، ويضجعه على شقه الأيمن، ويغسل شقه الأيسر، كما تقدم ذكره في الأيمن، وهذه غسلة واحدة، وهو في ذلك كلِّه يُتبع الماءَ يدَه دلكاً، وعليها خرقة.
ثم ذكر الشافعي أنه بعد كل غسلة، يُجلسه، ويمرّ يده على بطنه ويردّه، ولكنه يتحامل في المرة الأولى قبل ابتداء الغسل، ويرفُق في غيرها من الكرَّات على حسب ما تقتضيه الحال، ثم يغسله ثانية وثالثة، فإن حصل النقاء المطلوب، وإلا غسله خمساً أو سبعاً، هكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم اللّواتي كنّ يغسّلن ابنته زينب فقال: "اغسلنها ثلاثاً، خمساً، سبعاً"، والإيتار مرعي عند محاولة الزيادة على الثلاث، ولا مزيد على الثلاث من غير حاجة.
1641- واستعمال السدر في بعض الغسلات مما ورد الشرع به رعايةً للتنظيف، ولكن إذا تغير الماء بالسدر تغيراً طاهراً، لم تحتسب تلك الغسلة عن الفرض، ولابد في إقامة الفرض من إفاضة ماءٍ طهور، وبه الاعتداد، وذكر العراقيون وجهاً بعيداً عن أبي إسحاق المروزي أنه يتأدى الفرض بالماء المتغيّر بالسدر، وإن كان لا يجوز أداءُ الوضوء والغسل به في الجنابة والحَدث؛ فإن الغرض الأظهر من غُسل الميت النظافة، وهذا بعيد غير معتدٍّ به من المذهب.
ثم استعمال مقدار يتفق من الكافور في الغسلة الأخيرة حسن، أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ورائحته على الجملة مُطردَةٌ للهوام إلى أمد.
ثم لم تختلف الأئمة في أنا ننشفه بعد الفراغ من غسله، ويبالغ في تنشيفه حتى لا تبلّ أكفانُه، ولم نر في الوضوء والغسل التنشيفَ، كما تقدم، والفرق لائح، والأوْلى استعمال الماء البارد؛ فإنه يجمع اللحم والجلد، والماءُ المسخن يُرخي ويرهِّل إلا ألاّ يحصل النقاءُ المطلوبُ إلا بالمسخن، أو يكون الهواء بارداً، وكان يعسر استعمال الماء البارد فيه.
فهذا بيان كيفية الغسل.
1642- ثم نبتدىء بعد هذا المسائلَ الفقهية، ونصدّرُها بأن الأقل المجزي، الذي يسقط به الفرض وصولُ الماء إلى جملةِ ظاهر البدن، جرياناً، كما ذكرناه في غُسل الجنابة، وفي اشتراط النية في غسل الميت وجهان مشهوران:
أحدهما: تجب؛ فإنه غُسل حُكمي، فشابه غسلَ الجنابة.
والثاني: لا تجب؛ فإنها لا تتأتى من الميت، وإيجابها على الغاسل بعيد، والغرض الأظهر من هذا الغسل النظافة أيضاً، ويخرج على هذا الخلاف أن الغريق إذا لفظه البحر، فظفرنا به، فإن لم نشترط النية، فقد تأدى الغُسل بالبحر، وإن شرطنا النية، فلابد من إعادة الغُسل وإقامة النية، ولو غسل كافرٌ مسلماً، ففي الاعتداد به خلاف، مبنيٌّ على ما ذكرناه من اشتراط النية؛ فإن الكافرَ ليس من أهل النية. ثم الغاسل ينوي إذا شرطنا النية.
ومما يتعلق بهذا أن المجنونة إذا طهرت عن حيضها، فلا نبيح للزوج قربانها حتى تغتسل، ولا تتأتى النية منها، ولكن يكفي في استحلالها إيصال الماء إلى بدنها، ثم لو أفاقت، فهل تعيد الغُسل؟ فيه خلاف كالخلاف في الذمية إذا اغتسلت، ثم أسلمت، ولم يصر أحد من أئمتنا إلى أن قيّمها يُغسِّلها، وينوي عنها، كما ذكرنا أن غاسل الميت ينوي، فهذا مما لم يتعرضوا له بنفيٍ وإثبات والله أعلم.
فرع:
1643- إذا غسلنا الميت، فخرجت منه نجاسة، فلفظ الشافعي: أنا نعيد غسله. وقد اختلف الأئمة في المسألة، فذهب بعضهم إلى أنه يعاد غسله من أوله، والذي جرى من الأمر يوجب تجديد غسله؛ فإن الغرض الظاهر تنظيفه كما ذكرناه، ومن أئمتنا من قال: يقتصر على إزالة تلك النجاسة ولا يعاد غسله.
ومنهم من قال: تغسل تلك النجاسة، ثم يجب إعادة الوضوء فيه.
فمن رأى الاقتصار على غسل النجاسة، فلا يفرق بين نجاسة ونجاسة، ومحل ومحل، ومن يرى تجديد الوضوء، فلا شك أنه يقول ذلك في نجاسة تبدُرُ من أحد السبيلين، فأما من أوجب إعادة الغُسل، فإن كانت النجاسة خارجة من السبيل، فالغسل، وإن انفجر عرق وظهرت نجاسة، ففي إيجاب إعادة الغسل احتمال عندي، من جهة أن هذا القائل يرى السبب الظاهر في الغسل التنظيف. وهذا يستوي فيه كل نجاسة ومحل، والله أعلم.
فصل: يجمع تفصيلَ القول في الغاسلِين ومن يكون أَولى
1644- ونحن نصدّره قبل القول في الأَوْلى، بمن يجوز له أن يغسل، فنقول: أما الزوجة، فإنها تغسل زوجها وفاقاً، والأصل فيه ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها "قالت: لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، لما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه" وقيل: كانت تظن أنهن لو تركن حقوقهن من غسله، تولى أبو بكر الغسل، فلما تولاه علي والعباس، ندمت على ما تركت.
والزوج يغسل زوجته عند الشافعي، خلافاً لأبي حنيفة، وقد "صح أن علياً غسّل فاطمة رضي الله عنهما"، فإذا ماتت أمّ ولد الإنسان، أو جاريتُه الرقيقة، فللسيد أن يتولى غُسلها، وإذا مات السيد، فأم الولد هل تغسله؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا تغسله فإنها عَتَقَت بموته.
والثاني: تغسله، فإنها كانت محلّ حلِّه، وعتقها بمثابة انتهاء النكاح نهايته في حق الزوجة.
والأمة المملوكة هل تغسل سيدها؟ فيه وجهان أيضاً، ولعل الأصحَّ المنعُ، فإن الملك فيها انتقل على التحقيق إلى الورثة، ولم يكن الحلّ فيها مقصوداً في الحياة.
1645- ثم الزوجان عندنا يغسل كل واحد منهما صاحبه، وسببه أن النكاح ينتهي نهايته، فجواز الغسل يعقبه كالميراث، ولا تعويل في جانبها على العدّة؛ فإن العدّة واقعة وراء منتهى النكاح، وليست المرأة زوجة في العدة قطعاً.
ولو مات الزوج، فوضعت في الحال حملاً، وانقضت عدتُها، فإنها تغسل زوجها، وإن انقضت العدة، كما يغسل الزوج زوجته، وإن لم يكن معتداً.
1646- ولو ماتت المرأة ولم نُصادِف لها زوجاً، ولا حميماً، ولم تكن حيث ماتت امرأة أيضاً، فالذي قطع القفال به أن الرجل يغسلها في قميص، ويبذل كنهَ الجهد في غضِّ الطرف عنها.
وذكر العراقيون وجهاً أنها لا تغسل، ولكن تُيمَّم ويجعل فقدان من يغسلها، كفقد الماء. وهذا وجه بعيد.
وكذلك لو مات الرجل ولم يشهد إلا نسوة أجنبيات، فظاهر المذهب أنهن يغسلنه، ويغضضن من أبصارهن، وذكروا وجهاً أنه ييمم.
1647- ومما ذكره الصيدلاني كلامُ الأصحاب في الخنثى إذا مات على إشكاله، ولم يُعلم له حميم من الرجال أو النساء، قال بعض الأصحاب: يجب أن يشترى له من تركته أمة تغسله.
وقال الشيخ أبو زيد: هذا ضعيف لا أصل له؛ فإن المذهب الصحيح أن الرجل إذا خلَّف أمة، لم تغسله؛ من حيث صارت ملكاً للورثة.
فالوجه أن يقال: الخنثى يغسله الرجال، أو النساء، مع غض الطرف، وليس أحد الجنسين أولى في ذلك من الثاني. قال القفال في توجيه ذلك: "هذا الخنثى لو فرض طفلاً صغيراً، لجاز للرجال والنساء جميعاً أن يغسّلوه حياً وميتاً، فتستصحب تلك الحالة".
ولا حاجة إلى التمسك بهذا؛ فإن مقتضاه جواز ذلك للجنسين في بلوغه استصحاباً لحكم الصغير في حالة البلوغ في الحياة، وهذا لا سبيل إلى التزامه، ولكن ذلك يوجَّه بمسيس الحاجة إلى الغسل، ثم ليس مع ضرورة الغسل جنس أولى من جنس.
ويرد في صورة الخنثى الوجه الذي ذكره العراقيون أنه ييمم ولا يغسل، وهذا بعيد غيرُ مرضي.
1648- فإذا تمهد بما ذكرناه غسل الرجال للنساء وغسل النساء للرجال عند مسيس الحاجة، فنحن نبتدىء الآن التفصيل فيمن هو أولى بالغُسل عند فرض اجتماع من يصلح لهذا الشأن.
فإذا ماتت امرأة، وخلّفت زوجاً وجمعاً من المحارم، من الرجال والنساء جميعاً، كان شيخي وغيره من أصحاب القفال يقولون: نساء المحارم أولى بالغسل من الزوج وغيره من الرجال، فإن لم يكن، فالنساء الأجنبيات أولى من الزوج، فإن لم نجد امرأة أصلاً، فالزوج أولى من الرجال المحارم، فإن لم يكن زوج، فالرجال المحارم، ثم ترتيب الكلام فيهم في الغسل على حسب ترتيبهم في الصلاة، وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله عز وجل.
وذكر العراقيون نسقاً آخر في الترتيب، فقالوا: في الزوج ونساء المحارم وجهان:
أحدهما: أن نساء المحارم أولى.
والثاني: أن الزوج أولى؛ فإنه كان ينظر من امرأته في حياتها ما لا ينظر إليه نساء المحارم.
والقائل الأول يقول: لا نكاح بعد الموت، وإنما يثبت الغُسل للزوج لحرمة تُبقيها الشريعة بعد انتهاء النكاح نهايته، والمحرمية سببها باق دائم، سيما مع الأنوثة، ثم فرعوا على هذا، فقالوا: إن قلنا: الزوج أولى من نساء المحارم، فلا شك أنه أولى من رجال المحارم أيضاً، وإن قلنا: نساء المحارم أولى من الزوج، ففي رجال المحارم مع الزوج وجهان:
أحدهما: المحارم أولى لما ذكرناه من بقاء سبب المحرمية وانتهاء النكاح نهايته.
ومنهم من قال: الزوج أولى، لما سبق ذكره. ثم من يرى تقديمَ المحارم، فإنه يقدم أبعدهم على الزوج، ومن يقدم الزوجَ، فإنه يقدمه على أقرب المحارم، ثم ترتيب الأقارب المحارم كترتيبهم في الصلاة.
فهذا بيان الطرق في ترتيب من يُغسِّل، وهو فيه إذا كان يُفرض ازدحامُهم وتنافسهم في الغُسل، فإن سَلَّم من قدمناه في الغُسل ذلك لمن نؤخره، جاز لمن نؤخره أن يتعاطى الغسل، كالزوج إذا سلّم الغسل لرجال القرابة، ونحن نرى تقديم الزوج.
1649- وكان شيخي يقول: هذا يجري في الرجال بعضهم مع بعض، فأما النساء، فيجب تقديمهن على جنس الرجال إذا وجدت، وإنما يغسّل الرجال المرأة إذا فقدنا النساء.
وهذا القسم عندي فيه احتمال ظاهر، فيجوز أن يقال: من نقدِّمه عند الزحمة، فحق عليه أن يتعاطى الغسل، فإنه بحق واختصاصٍ قُدِّم، ويجوز أن يقال: له أن يسلم لغيره.
1650- ومن دقيق الكلام في هذا الباب أنه لو اجتمع الأصناف المقَدَّمة، فامتنعوا من الغسل، فالوجه أن يقال: يختص بحكم الحَرَج من قوي تقديمه عند فرض الزحمة، ثم لا يسقط عن غيره، بل لو عطله الأدنوْن، والأقربون، تعين على الأجانب القيامُ بذلك؛ فإنه فرضٌ على الكفاية، في حق الناس عامة. وهذا واضح لمن تأمله. والعلم عند الله تعالى.
1651- وكل ما ذكرناه في المرأة تموت، فأما الرجل إذا مات، فزوجته في غُسله كالزوج في غسل زوجته، وترتيب القول في تقديمها على الرجال المحارم، كما ذكرنا، فالرجال في غسل الرجل كالنساء في غسل المرأة.
وحكى شيخي والأئمة عن أبي إسحاق المروزي أنه كان يقول: ليس للزوجة رتبةُ التقدم على أحد، وإنما لها جواز الغسل فحسب، فأما أن تقدم، فلا. وهذا ليس بشيء، فالزوجة في حق الزوج، كالزوج في حق الزوجة، وفي حديث عائشة ما يدل على أن الزوجة أولى من رجال المحارم: "لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، لما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه".